الإشتراكیة الرجعیة
أ- الإشتراكیة الإقطاعیة
وَجدت الأرستقراطیة الفرنسیة و الإنكلیزیة نفسھا مدعوّة, بحكم موقعھا التاریخي, إلى
كتابة قطع ھجائیة ضدّ المجتمع البرجوازي الحدیث. ففي ثورة تموز (یولیو) الفرنسیة
عام 1830 , و في حركة الإصلاح الإنكلیزیة, كانت قد انھزمت مرة أخرى, أمام ھذا
الوصوليّ المقیت, فلم یعد ممكنا الحیث عن نضال سیاسي جديّ. لقد بقي لھا النضال
الأدبي فقط. و لكن التشدقات الكلامیة القدیمة, عھد إعادة المَلَكیة ( 1) , غدت في میدان
الأدب أیضا مستحیلة. و لتستدرَّ العطف اضطرت الأرستقراطیة إلى التظاھر بالتخلّي عن
مصالحھا, و إلى وضع قرارھا الإتھامي ضد البرجوازیة لمصلحة الطبقة العاملة المستَغلَّة
فقط. و على ھذا الوجھ وفرت لنفسھا لذة ھجاء سیّدھا الجدید بواسطة الأغاني, و الغمغمة
في أذنھ بتنبؤات مشحونة بفیض من النذر.
و ھكذا نشأت الإشتراكیة الإقطاعیة مزیجا من نحیب و ھجاء من صدى الماضي و وعید
المستقبل, مصیبة أحیانا البرجوازیة في الصمیم بحُكم قاس ثاقب, و مُثیرة السخریة
باستمرار لعجزھا التام عن إدراك مسیرة التاریخ الحدیث.
فعوضا عن التلویح بالرّایة لوَّح الأرستقراطیون بمخلاة التسوّل البرولیتاریة, لیحشروا
الشعب خلفھم, لكنھ ما أن تبعھم حتى لمح على عجیزتھم شارات النَّسَب الإقطاعیة
القدیمة, فانفضَّ عنھم بقھقھات وقحة مستخفة.
و قد أجاد في تمثیل ھذا المشھد قسم من الشرعیین الفرنسیین و من إنكلترا الفتاة.
و عندما یبرھن الإقطاعیون على أنّ نمط استغلالھم كان یختلف عن نمط الإستغلال
البرجوازي, ینسَون فقط أنھم كانوا یستغلون في أوضاع و شروط مختلفة كلیا ولّى الیوم
عھدھا. و عندما یُثبتون أنّ البرولیتاریا الحدیثة لم تكن موجودة في ظل سیطرتھم, ینسَون
فقط أنّ البرجوازیة الحدیثة كانت, ضبطا, ولیدا واجب الوجود لنظامھم المجتمعي.
و زد على ذلك أنھم قلّما یُخفون الطابع الرجعي لانتقادھم, إذ أنّ مأخذھم الرئیسي على
البرجوازیة یَكمُن, ضبطا, في القول إنّ الطبقة التي تتبسط في ظلّ نظامھا, ستنسف التظام
المجتمعي القدیم برُمّتھ.
و ھم لا یلومون البرجوازیة, أكثر ما یلومونھا, لأنھا أنجبت البرولیتاریا بشكل عام, بل
لأنھا أنجبت البرولیتاریا الثوریة.
و لذا فإنھم في الممارسة السیاسیة یشتركون في جمیع التدابیر القمعیة ضد الطبقة
العاملة, و رغما عن تشدقاتھم الجوفاء فإنھم في حیاتھم الإعتیادیة یَرتضون التقاط
التفاحات الذھبیة, و مقایضة الوفاء و الحب و الكرامة بالمتاجرة بالصوف و الشمندر و
.( العرق ( 2
و مثلما سار الكاھن و الإقطاعي دوما یدا بید تَسیر الإشتراكیة الكھنوتیة و الإشتراكیة
الإقطاعیة.
فلا شيء أسھل من إضفاء صبغة الإشتراكیة على التنسّك المسیحي. ألم تُلغِ المسیحیة
أیضا الملكیة الخاصة و الزواج و الدولة؟ و بدلا منھا ألم تعظ بالصدقة و التسول و التبتل
و أمانة الجسد, و الحیاة الرھبانیة و الكنسیة؟ فالإشتراكیة المسیحیة لیست إلاّ الماء
المقدّس الذي یكرِّس بھ الكاھن حقد الأرستقراطي.
ب - الإشتراكیة البرجوازیة الصغیرة
الأرستقراطیة الإقطاعیة لیست الطبقة الوحیدة التي أطاحتھا البرجوازیة, و التي ذبُلت
شروط حیاتھا و ھلكت في المجتمع البرجوازي الحدیث. فإنّ برجوازیي المدن و فئة
الفلاحین الصغار في القرون الوسطى كانوا طلائع البرجوازیة الحدیثة.
و ھذه الطبقة لا تزال, في البلدان الأقل تطورا صناعیا و تجاریا, تعیش حیاة خاملة إلى
جانب البرجوازیة الصاعدة.
و في البلدان, التي نمت فیھا الحضارة الحدیثة, تكونت برجوازیة صغیرة جدیدة تتأرجح
بین البرولیتاریا و البرجوازیة. و ھي كجزء مكمل للمجتمع البرجوازي لا تفتأ تعید تشكیل
نفسھا؛ و من جرّاء المزاحمة ینحدر أفرادھا باستمرار إلى (صفوف) البرولیتاریا؛
بالإضافة إلى ذلك یرون, مع نمو الصناعة الكبیرة, اقتراب الساعة التي سیضمحلّون فیھا
كلیّا, بوصفھم قسما مستقلا عن المجتمع الحدیث, لیحُلّ محلھم, في التجارة و المانیفاتورة
و الزراعة, نُظّار العمل و المستخدمین.
و كان طبیعیا, في بلدان مثل فرنسا, حیث تُشكّل طبقة الفلاحین أكثر من نصف السكان, أن
یَعمد الكُتّاب, الذین یناصرون البرولیتاریا ضد البرجوازیة, إلى استخدام معیار برجوازي
صغیر و فلاحي صغیر في نقدھم النظام البرجوازي, و أن ینحازوا إلى العمال من وجھة
نظر البرجوازیة الصغیرة. و على ھذا الوجھ تكونت الإشتراكیة البرجوازیة الصغیرة.
و سیسموندي ھو زعیم ھذا الأدب لا في فرنسا فحسب بل في إنكلترا أیضا.
فھذه الإشتراكیة حلّلت, بكثیر من الفطنة, التناقضات في علاقات الإنتاح الحدیثة, و فضحت
تبریرات الإقتصادیین المنافقة, و أثبتت, بشكل لا یُدحض, التأثیرات المدمِّرة للمكننة, و
تقسیم العمل, و حصر رؤوس الأموال و الملكیة العقاریة, و الإنتاج الزائد, و الأزمات و
الإنحلال المحتم للبرجوازیین الصغار و الفلاحین الصغار, و بؤس البرولیتاریا, و الفوضى
في الإنتاج, و التفاوت الصارخ في توزیع الثروة, و الحرب الصناعیة الماحقة بین الأمم و
انحلال العادات القدیمة, و العلاقات العائلیة القدیمة, و القومیات القدیمة.
و ھذه الإشتراكیة, بحسب مضمونھا الوضعي, ترید إمّا إعادة وسائل الإنتاج و التبادل
القدیمة, و بذلك تعید علاقات الملكیة القدیمة و المجتمع القدیم, و إمّا حصر وسائل الإنتاج
و التبادل الحدیثة بالقوة في إطار علاقات الملكیة القدیمة الذي نَسفتھ, و الذي لا بدّ من
نسفھ. و ھي في كلتا الحالتین رجعیّة و طوباویة في آن واحد.
النظام الحرفي في المانیفاتورة, و الإقتصاد البطریركي في الریف: تلك ھي كلمتھا الأخیرة,
و ھذا الإتجاه إنتھى, في تطوره اللاحق, إلى مُواءٍ جبان.
ج - الإشتراكیة الألمانیة أو الإشتراكیة "الصحیحة"
إنّ الأدب الإشتراكي و الشیوعي في فرنسا, الذي نشأ تحت ضغط برجوازیة مسیطرة,
تعبیرا أدبیا عن النضال ضد ھذه السیطرة, أُدخِل إلى ألمانیا في وقت كانت البرجوازیة
(الألمانیة) تستھلّ نضالھا ضد الإقطاعیة الإستبدادیة.
و بشراھة تخاطف الفلاسفة, و أدعیاء الفلسفة, و الأدباتیة الألمان, ھذا الأدب. و لكنھم
نسوا أنّ نزوح تلك الكتابات, من فرنسا إلى ألمانیا, لم یرافقھ في الوقت نفسھ نزوح
أوضاع الحیاة الفرنسیة. ففقد الأدب الفرنسي, في الأوضاع الألمانیة, كل أھمیة عملیة
مباشرة و اتخذ وجھا أدبیا بحتا. و من ثم كان لا بد من أن یبدو كتأمل لا نفع فیھ حول
تحقیق الجوھر الإنساني. و ھكذا, لم تكن مطالب الثورة الفرنسیة الأولى, في نظر
الفلاسفة الألمان في القرن الثامن عشر, سوى مطالب "العقل المعیاري" بصورة عامة, و
تجلیات إرادة البرجوازیة الثوریة الفرنسیة, لم تكن تعني في نظرھم, سوى قوانین الإرادة
البحتة, الإرادة كما ینبغي أن تكون, الإرادة الإنسانیة الحقة.
و العمل الوحید للأدباء الألمان كان ینحصر في التوفیق بین الأفكار الفرنسیة الجدیدة و
وجدانھم الفلسفي القدیم, أو بالأحرى في انتحال الأفكار الفرنسیة انطلاقا من آرائھم
الفلسفیة؛ و ھذا الإنتحال تم بالطریقة نفسھا التي یتعلم بھا المرء عادة لغة أجنبیة, أي
بواسطة الترجمة.
و معروف كیف استبدل الرھبان عناوین المخطوطات, المنطویة على الأعمال الكلاسیكیة
للعھد الوثني القدیم, بعناوین حكایات سمجة لقدّیسین كاثولیك. أمّا الأدباء الألمان فقد
تصرفوا حیال الأدب الفرنسي الدنیوي على عكس ذلك, لقد ذیَّلوا الأصل الفرنسي بھرائھم
الفلسفي, فكتبوا, مثلا تحت النقد الفرنسي للعلاقات المالیة: "تجرید الكائن البشري", و
تحت النقد الفرنسي للدولة البرجوازیة: "إلغاء سیطرة الكلّي المجرَّد" إلخ..
إن دسّ ھذه العبارات الفلسفیة الجوفاء, تحت التطویرات الفرنسیة, عمَّدوه بأسماء, مثل
"فلسفة الفعل", و "الإشتراكیة الحقّة", و "علم الإشتراكیة الألمانیة", و "التعلیل
الفلسفي للإشتراكیة", إلخ..
و بھذه الطریقة خُصي الأدب الإشتراك - ي الشیوعي الفرنسي خصیا واضحا. و بما أن ھذا
الأدب كفَّ في أیدي الألمان, عن التعبیر عن نضال طبقة ضد أخرى, تصوّر الألمان أنھم
تجاوزوا "المحدودیة الفرنسیة", و أنّھم دافعوا لا عن الحاجات الحقیقیة, بل عن الحاجة
إلى الحقیقة, و لا عن مصالح البرولیتاري, بل عن مصالح الكائن البشري, مصالح
الإنسان على العموم, الإنسان الذي لا ینتمي إلى أي طبقة, و لا إلى الواقع إطلاقا, بل
ینتمي فحسب إلى سماء الخیال الفلسفي المضبَّبة.
و ھذه الإشتراكیة الألمانیة, التي حملت تمارینھا المدرسیة الحمقاء على محمل الجد و
المھابة الكبیرین, و زمَّرت لھا و طبّلت بمثل ھذا الزعیق, فقدت شیئا فشیئا براءتھا
الدعیة.
فإنّ نضال البرجوازیة الألمانیة لا سیّما البرجوازیة البروسیة, و بكلمة نضال الحركة
اللیبیرالیة ضد الإقطاعیین و الملكیة المطلقة, أصبح أكثر جدیّة.
و بھذا الشكل أتیحت للإشتراكیة "الحقّة" الفرصة المنشودة لمواجھة الحركیة السیاسیة
بالمطالب الإشتراكیة, و لصبّ اللعنات التقلیدیة على اللیبرالیة, و النظام التمثیلي, و
المزاحمة البرجوازیة, و حریة الصحافة البرجوازیة, و القانون البرجوازي, و الحریة و
المساواة البرجوازیتین, و لتحذیر الجماھیر من أنھا لا تكسب شیئا من ھذه الحركة
البرجوازیة, بل بالعكس ستخسر فیھا كل شيء فسَھا عن الإشتراكیة الألمانیة, ضبطا, أنّ
النقد الفرنسي الذي كانت ھي صداه البلید یستلزم وُجود المجتمع البرجوازي الحدیث مع
الشروط الحیاتیة المادیة المُطابقة لھ, و مع الدستور السیاسي المُناسب, تلك المستلزمات
التي كان العمل یجري في ألمانیا لتحقیقھا
فالإشتراكیة خَدمت الحكومات الألمانیة المُطلقة و حاشیتھا, من كھنة و علماء تربیة و
إقطاعیین بُلداء و بیروقراطیین, كفزّاعة منشودة ضد وعید البرجوازیة المتصاعد.
و الإشتراكیة شكّلت التكملة المتكلفة الحلاوة, لمرارة لذع السیاط و طلقات البنادق, التي
تصدَّت بھا الحكومات نفسھا للإنتفاضات العمّالیة الألمانیة.
و إن كانت الإشتراكیة "الحقّة" قد غدت, بھذه الصورة, سلاحا في أیدي الحكومات ضد
البرجوازیة الألمانیة, فإنّھا كانت تُمثّل مباشرة مصلحة رجعیة, مصلحة البرجوازیة
الألمانیة الصغیرة و (ھذه) البرجوازیة الصغیرة, التي خلّفھا القرن السادس عشر و التي
ما انفكت تظھر بأشكال مختلفة, تشكل في ألمانیا الأساس المجتمعي الفعليّ للأوضاع
القائمة.
فالحفاظ علیھا ھو الحفاظ على الأوضاع الألمانیة القائمة. و ھي تخاف من الھلاك المبین
أمام السیطرة الصناعیة و السیاسیة للبرجوازیة, نتیجة لتمركز رأس المال من ناحیة, و
لبروز برولیتاریا ثوریة من ناحیة أخرى؛ و قد تراءى لھا أنّ الإشتراكیة "الحقّة" قادرة
على إصابة عصفورین بحجر واحد. فتفشّت (الإشتراكیة) تفشّي الوباء.
و الحُلّة المصنوعة من شفافیة النظریات التجریدیة, و المطرَّزة بمحسِّنات لفظیّة, و
المسبقة بندى الوجد الدافئ- ھذه الحُلّة, التي غلَّف بھا الإشتراكیون الألمان بِضْعا من
"حقائقھم الخالدة" (الثابتة) الھزیلة, لم تَزد إلاّ في رواج بضاعتھم لدى الجمھور.
و أكثر فأكثر أدركت الإشتراكیة الألمانیة من جھتھا, أن مھمتھا ھي أن تكون المثل الطنّان
لھذه البرجوازیة الصغیرة.
فأعلنت أنّ الأمة الألمانیة ھي الأمة السویة, و أنّ البرجوازي الألماني الصغیر ھو الإنسان
السوي. و أضفت على نذالتھ كلھا معنى غامضا سامیا و اشتراكیا, جعلھا تدل على عكس
واقعھا. و آل بھا المطاف إلى التصدي مباشرة للإتجاه الشیوعي '"الھدّام الفظّ", و أعلنت
أنھا تحلّق بتجرّد فوق كل الصراعات الطبقیة. و عدا استثناءات قلیلة جدا فإنّ كل الكتابات
الإشتراكیة و الشیوعیة المزعومة, المتداولة في ألمانیا, تنتمي إلى قطاع ھذا الأدب القذر
.( المثیر للأعصاب( 3
-2 الإشتراكیة المحافظة أو الإشتراكیة البرجوازیة
یرغب قسم من البرجوازیة في معالجة الأوضاع المجتمعیة السیئة لضمان بقاء المجتمع
البرجوازي.
و یندرج في ھذا القسم: إقتصادیون و خیِّرون و إنسانیون و محسّنو وضع الطبقات
الكادحة, و منظِّموا أعمال البر و الإحسان و جمعیات الرفق بالحیوان, و جمعیات الإعتدال
و القناعة, و مصلحون ضیقو الأفق من كل الأصناف. و اشتراكیة البرجوازیین ھذه
صیغت في مذاھب كاملة.
و نورد, مثالا على ذلك, "فلسفة البؤس" لبرودون.
فالبرجوازیون الإشتراكیون یریدون شروط حیاة المجتمع الحدیث, (لكن) بدون النضالات و
الأخطار الناجمة عنھا بالضرورة. إنّھم یریدون المجتمع القائم منقى من العناصر التي
تثوِّره و تھدمھ. إنّھم یریدون البرجوازیة بدون البرولیتاریا. و بالطبع تتصور البرجوازیة
العالم الذي تسود فیھ كأفضل العوالم. و اشتراكیة البرجوازیین تصوغ من ھذا التصوّر
المعزّي نصف مذھب أو مذھبا كاملا. و ھي, بدعوتھا البرولیتاریا إلى تحقیق مذاھبھا و
الدخول إلى أورشلیم الجدیدة, تطالب في الحقیقة فقط بأن تتشبّث (البرولیتاریا) بالمجتمع
الراھن, على أن تنفض عنھا تصورات كراھیتھا لھذا المجتمع.
و ھناك شكل آخر لھذه الإشتراكیة, عملیا أكثر و أقل تمذھبا, سعى إلى جعل الطبقة العاملة
تنفر من كل حركة ثوریة, بالبرھنة على أنّ ما یسعھ أن یُفیدھا, لیس ھذا التغییر السیاسي
أو ذاك, و إنّما فقط تغییر أوضاع الحیاة المادیة, أي الأوضاع الإقتصادیة. و ھذه
الإشتراكیة لا تفھم إطلاقا أنّ تغییر أوضاع الحیاة المادیة یقتضي إلغاء علاقات الإنتاج
البرجوازیة, الذي لا یتمّ إلاّ بالطریق الثوري, بل تعني إصلاحات إداریة تستند إلى أساس
علاقات الإنتاج ھذه, أي أنھا لا تغیر شیئا في العلاقة بین رأس المال و العمل المأجور, بل
تقلل, في أفضل الأحوال, نفقات سیطرة البرجوازیة و تخفف میزانیة الدولة.
فاشتراكیة البرجوازیین لا تبلغ تعبیرھا المُلائم إلاّ عندما تسمي مجرد تعبیر بیاني. فحریة
التجارة, لمصلحة الطبقة العاملة, و الحمایة الجمركیة, لمصلحة الطبقة العاملة, و السجون
الإنفرادیة, لمصلحة الطبقة العاملة: ھذه ھي الكلمة الأخیرة و الوحیدة الجادة, التي
تقصدھا اشتراكیة البرجوازیین.
فاشتراكیة البرجوازیة لا تكمن إلاّ في الإدعاء القائل إنّ البرجوازیین ھم برجوازیون -
لمصلحة الطبقة العاملة.
-3 الإشتراكیة و الشیوعیة النقدیتان الطوباویتان
و ھنا لا نتحدث عن الأدب الذي أعرب, في كل الثورات الكبرى الحدیثة, عن مطالب
البرولیتاریا (كتابات بابوف, إلخ..)
فالمحاولات الأولى للبرولیتاریا, لتغلیب مصالحھا الطبقیة مباشرة في زمن غلیان عام عھد
انھار المجتمع الإقطاعي, أخفقت بالضرورة نظرا إلى جنینیة البرولیتاریا نفسھا, و إلى
فقدان الشروط المادیة لتحرّرھا, التي ھي, قبل كل شيء, حصیلة العصر البرجوازي. و
الأدب الثوري, الذي كان یرافق ھذه الحركات الأولى للبرولیتاریا, ھو بالضرورة رجعي
المحتوى. فھو یدعو إلى تقشف عام, إلى مساواتیة فجة.
و في الحقیقة فإنّ المذاھب الإشتراكیة و الشیوعیة, مذاھب سان سیمون, و فورییھ, و
أوین, إلخ.. ظھرت في الحقبة الأولى الجنینیة من الصراع بین البرولیتاریا و البرجوازیة,
أي في الحقبة التي ذكرناھا آنفا (راجع: برجوازیة و برولیتاریا).
إنّ مبتدعي ھذه المذاھب یستبینون حقا التناحر بین الطبقات, مثلما یستبینون تأثیر
العناصر الھدّامة في المجتمع السائد نفسھ, لكنھم لا یتبیَّنون في إتّجاه البرولیتاریا أيّ فعل
تاریخي تلقائي, أو أیّة حركة سیاسیة خاصة بھا.
و لما كان نمو التناحر الطبقي یواكب نمو الصناعة, فإنّھم كذلك لا یعثرون على الشروط
المادیة لتحرّر البرولیتاریا, و یأخذون في البحث عن علم مجتمعي, عن قوانین مجتمعیة,
لخلق ھذه الشروط.
فعن النشاط المجتمعي یستعیضون بنشاط حذاقتھم الشخصیة, و عن الشروط التاریخیة
للتحرر (یستعیضون) بشروط كیفیة, و عن تنظیم البرولیتاریا في طبقة تنظیما تدریجیا
متصاعدا (یستعیضون) بتنظیم للمجتمع یختلقونھ. و في نظرھم, فإنّ تاریخ العالم المقبل
ینحلّ في الدعایة و في التنفیذ العملي لتصامیمھم المجتمعیة.
و لكنھم یعون أنّھم بتصامیمھم یُدافعون بالدرجة الأولى عن مصالح الطبقة العاملة,
بوصفھا الطبقة الأكثر معاناة. فالبرولیتاریا بالنسبة إلیھم لا تكون إلا بھیئة الطبقة الأكثر
معاناة.
و عن الشكل الأوَّلي للصراع الطبقي, و كذلك عن وضعھم المعیشي, ینتج اعتقادھم بأنھم
فوق كل تناحر طبقي. فھم یریدون أن یُحسِّنوا الوضع الحیاتي لكل أعضاء المجتمع, حتى
لأكثرھم یسرا. و لذا یتوجھون باستمرار إلى المجتمع بأسره بدون تمییز, بل (یتوجھون)
بالأحرى إلى الطبقة السائدة. فحَسْب المرء أن یفھم مذھبھم كي یعترف بأنّھ أفضل خطة
ممكنة لأفضل مجتمع ممكن.
فھم إذن, ینبذون كل نشاط سیاسي, و خصوصا كل نشاط ثوري, و یریدون بلوغ ھدفھم
بطریقة سلمیة, و یحاولون أن یشقوا الطریق للإنجیل المجتمعي الجدید بتجارب صغیرة
فاشلة بالطبع و بقوة المثال.
و ھذا الوصف الخیاليّ للمجتمع المقبل, في ومن ما زالت فیھ البرولیتاریا, الضعیفة النمو
إلى حدّ بعید تَنظر في وضعھا بكیفیة ھي ذاتھا خیالیّة, ینبثق من اندفاعاتھا السلیقیة
الأولى نحو تحویل المجتمع تحویلا شاملا.
بَیْد أنّ الكتابات الإشتراكیة و الشیوعیة تشتمل أیضا على عناصر نقدیة. فھي تھاجم
المجتمع القائم بكل أسسھ. و من ثم فإنّھا تُقدِّم مادة قیّمة جدا لتنویر العمال. فإنّ
موضوعاتھا الإیجابیة عن مجتمع المستقبل, مثل إزالة التناقض بین المدینة و الریف, و
إلغاء العائلة, و الربح الخاص, و العمل المأجور, و المناداة بالإنسجام المجتمعي, و
بتحویل الدولة إلى مجرّد إدارة للإنتاج, ھذه الموضوعات كلُّھا لا تعبّر إلاّ عن إلغاء التناحر
الطبقي الذي ابتدأ ینمو, و الذي لا تعرف ھذه الكتابات إلاّ شكلھ الأوّلي المبھم غیر المحدد
- و لذا لیس لھذه الموضوعات حتى الآن سوى معنى طوباوي صرف.
فأھمیة الإشتراكیة و الشیوعیة النقدیتین - الطوباویتین تتناسب عكسا و التطور التاریخي.
فبقدر ما ینمو الصراع الطبقي و یتجسم, یفقد ھذا الترفُّع الخیالي عن ھذا الصراع, و
(تفقد) مكافحتھ المتخیلة, كل قیمة عملیة, و كل تبریر نظري. و لھذا, إذا كان واضعوا ھذه
المذاھب ثوریین في كثیر من النواحي, فإنّ مریدیھم یؤلفون في كل حین شیعا رجعیة. فھم
یتشبّثون بآراء أساتذتھم القدیمة تجاه التطور التاریخي المطّرد للبرولیتاریا. و لذا یسعَون
بإصرار إلى إخماد الصراع الطبقي الجدید, و إلى التوفیق بین التناقضات. فھم لا یزالون
یحلمون بأن یحققوا تجریبیا طوباویاتھم المجتمعیة - إقامة الفالانستیرات ( 4) المعزولة, و
تأسیس مستوطنات داخلیة ( 5), و تأسیس إیكاریة ( 6) صغیرة - طبعة مُصغَّرة عن
أورشلیم الجدیدة- و لبناء ھذه القصور كلھا على الرمال توجب علیھم أن یُناشدوا رأفة
القلوب و الجیوب البرجوازیة. و شیئا فشیئا ینحدرون إلى مصاف فصیلة الإشتراكیین
الرجعیین أو المحافظین الذین جرى وصفھم آنفا, و ھم لا یختلفون عنھم إلاّ بحذلقة أكثر
منھجیة, و باعتقاد خرافيّ متعصّب بالمفعول العجائبي لعملھم المجتمعي.
و لذا یتصدّون بضراوة لكل حركة سیاسیة عُمّالیة, إذ لا یُمكن أن تصدر إلاّ عن كفر أعمى
بالإنجیل الجدید.
الأوینیون في إنكلترا, و الفورییویون في فرنسا, یقاومون ھناك الشارتیین و ھنا
الإصلاحیین.
1689 , بل في فرنسا - 1) المقصود ھنا, لیس إعادة المَلَكیة في إنكلترا 1660 )
( 1830 . (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكلیزیة 1888 -1814
2) ھذا ینطبق بالدرجة الأولى على ألمانیا, حیث الأرستقراطیون الزراعیون و كبار )
أصحاب الأراضي الألمان, یشرفون على إدارة الشؤون الاقتصادیة في القسم الأكبر من
أراضیھم, على حسابھم الخاص بواسطة الوكلاء, و حیث یملكون علاوة على ذلك معامل
كبیر للسكر و العرق. أمّا أغنى الأرستقراطیین الإنكلیز فلم تبلغ بھم الحال بعد ھذه الدرجة,
إلاّ أنھم یعرفون ھم أیضا كیف یُعوّضون عن ھبوط الریع بإعطاء أسمائھم لمؤسسي
شركات مساھمة, مشكوك فیھا إلى ھذا الحد أو ذاك. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكلیزیة
(1888
3) عاصفة ثورة عام 1848 كنست ھذا الإتجاه الرث كلھ, و أفقدت داعامة الرغبة في )
مواصلة الانشغال بالاشتراكیة. و المثل الرئیسي, بل النمط الكلاسیكي لھذا الإتجاه, ھو
( السید كارل غرون (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانیة 1890
4) فلانستیر, إسم القصور الإجتماعیة التي تخیّلھا فورییھ. (ملاحظة إنجلس الطبعة )
( الألمانیة 1890
ھكذا سمى أوین مجتمعاتھ الشیوعیة .Home - Colonies 5) المستوطنات الداخلیة )
( النموذجیة. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانیة 1890
إسم أطلقھ كابھ على بلد تخیّلھ, ثم على مستعمرة شیوعیة, أنشأھا . Icarie 6) إیكاریة )
في أمریكا. (ملاحظة إنجلس للطبعة الإنكلیزیة 1888 ) أسم بلد خیالي طوباوي وصف بھ
( كابھ مؤسساتھ الشیوعیة. (ملاحظة إنجلس الطبعة الألمانیة 189